Monday, August 4, 2014

"تجليات التاريخ في" زمن الخيول البيضاء



لم أكن أتوقع أنني سأقرأ لابراهيم نصرالله في يوم من الايام. لا توجد أسباب مقنعة لشعوري ان هذا الكاتب لن يعجبني، ربما إحساسي أنه يشبه الشعراء أكثر من الكُتاب عندما رأيت صورته..لا أدري لكني استثنيته من كافة قراءاتي الحالية أو المستقبلية إلى أن جاء اللقاء الاولي لمبادرة القراءة "التي أسميناها أسفار فيما بعد و للمعلومية أسفار جمع و مفردها سِفر و هو الكتاب كما أن الكتاب يسافر بنا بعيدا إلى عوالم أخرى لم نكن لنعرفها لولاه" و تم طرح رواية "زمن الخيول البيضاء" للتصويت و هنا فقط أحسست برغبة في قراءته، فهذا هو تأثير اجتماعات القراءة...أن تجعلك تقرأ ما لم تكن مقتنعا بقراءته على الاطلاق.

عند شرائي للكتاب أعجبت جدا بجودة طباعته، الورق و الغلاف و الخطوط كلها كانت مثيرة للاعجاب في الحقيقة و منذ صفحاته الاولى أحسست أنني كنت مخطئا جدا في حق هذا الروائي فالكتاب مكتوب بلغة سلسة و بطريقة تشجع على قراءته فعلا. قرية "الهادية"، قرية فلسطينية مُتخيلة يمكن أن تكون نموذجاً لأي قرية فلسطينية، نعيش مع أهلها تجاربهم في حقبة زمنية حساسة في تاريخ فلسطين تمتد من أواخر أيام الدولة العثمانية مرورا بنهايتها بُعيد انتهاء الحرب العالمية الاولى و ابتداء الانتداب البريطاني وصولا إلى النكبة. قرية عرفت التسامح الذي عززه الكاتب بايجاد شخصيات مسيحية وطنية من أهالي القرية و فلسطين و لكنها أيضا عانت من التبشير و محاولة الاقتلاع من الارض على أيدي رجال الدير القادمين من الخارج و الحاقدين على العرب قبل حقدهم على المسلمين. كما أنها قرية عانت أشكال متنوعة من الظلم على مدار الزمن، عانت من ظلم الاتراك الذين كان همهم تحصيل الضرائب و أخذ الشباب الى معارك الحرب العالمية الاولى تاركين الناس فريسة للجوع و الجهل و المرض، كان الاتراك يُسلطون أسوء الناس و أحقدهم من بني جلدتنا علينا فكانت شخصية الهباب نموذجا لهذا الظلم. و لم تكد ترتاح من آثار هذا الظلم حتى أتى الانجليز بظلمٍ جديدٍ عليهم، ظلم دولة "القانون" الذي يحترمه البريطانيون و لكن مشكلته الوحيدة أنه تم تفصيله لقهر الفلسطينيين و سلبهم أراضيهم و حياتهم لصالح اليهود. ظلمٌ تجسَد في شخصية الضابط الانجليزي "أدوارد بترسون" التي تجلت عبقرية الكاتب في خلقها و ايجاد بعدٍ آخر لها يتمثل في كتاباته الشعرية التي نراها في هوامش الكتاب و التي لطالما راودته خلال فترة عمله في فلسطين، هوامش كُتبت بذكاء لتعطينا بقية القصة و حقيقة مشاعر بترسون أثناء تأديته لعمله رغم الوحشية التي بدى بها في قمعه للثورة الفلسطينية. تكشف لنا الرواية بجلاء أساليب الاستعمار الانجليزي التي تمكنه من إحكام سيطرته على البلدان التي خضعت له، أساليب من مثل استخدام سياسة فرق تسد بين أي عائلتين، أي قريتين و أي مدينتين، قد بدا ذلك واضحا في عداوة صبري النجار للحاج خالد التي أدت به إلى محاولة اغتياله و من ثم الوشاية به ليقع في فخٍ محكم و ليموت ميتة الابطال التي دفعت الضباط الانجليز إلى دفن الحاج القائد دفنا عسكريا بما يليق بمقاتل شريف سقط من أجل بلده. أو من مثل خلق نخب ثقافية و سياسية خاصعة له و يتم منحها سلطة الحديث بإسم الشعب المغلوب على أمره، كيف يمكن لهذه النخب التي نهلت العلم و الاخلاق من المستعمر الذي ما علمها إلا لكي تقول له نعم أن تسترجع الحقوق؟؟؟ نُخب من مثل سليمان بك الهاشمي الذين اعمتهم لغة المال و المصالح عن القيام بواجبهم الوطني و الذي لجأ في لحظة معينة إلى البريطانيين متلمسا منهم أن يقوموا بسجنه حتى يقوم بتلميع صورته في نظر الناس أو محمود إبن خالد الشيخ محمود بطل القصة الذي ترك تاريخ عائلته المجيد و ما زاده علمه الذي تعلمه في مدرسة تبشيرية إلا بعدا عن الواقع و كرها لتخلف القرية و أهلها بما فيهم زوجته و أولاده حتى اختار في لحظة مصيرية أن يترك كل هذا خلفه و يمضي بعيدا عن سفينة وطنه الغارقة. كما أن تحكم الانجليز في شؤون العرب أدى إلى تخاذل العرب الذي تجلى في إفشال ثورة 1936 و تسليم فلسطين دون أوامر للقتال في عام النكبة. لتأتي الرحلة الاخيرة بعد تذوقهم للويلات و مشاهدتهم لقريتهم التي كانت شاهدا على سنوات صباهم و ذكرياتهم لتصبح أثرا بعد عين.

لم يفاجئني الكتاب تاريخيا لإلمامي بتاريخ الشعب الفلسطيني المعاصر و لكن مشاعر القهر كانت تزداد كلما أوغلت في القراءة على مصير هذا الشعب الطيب، الشهم و الكريم. ذلك الشعب الذي يحترم خيله، يخشى عليها و يحبها، ذلك الشعب الذي كانت له خيول بيضاء هي برأيي عاداته و خصاله الحميدة التي أُبتلينا بمن جاء حتى يشوهها و يحولنا من شعب واحد ذو أرض و تاريخ إلى شرذمة من الناس يكاد الناظر إليها ليظن أنها جاءت متطفلة على تاريخ البشر. قرات الكثير لكني لم أتأثر بمقدار تأثري على شعبنا اللاجىء الذي ذاق ويلات لا أظن أننا نستطيع وصفها مهما كتبنا من الروايات و القصص. لا شيء أصعب من حرمان إنسان من تاريخه و ماضيه و لا أحد يستطيع أن يصف مقدار هذه الصدمة التي حفرت عميقا في وجدان شعبنا بعد كل هذه السنين.

بينما كان الكاتب يخط السطور الاخيرة في عمر الهادية، رأينا بسالة الجنود المصريين الذين أصروا عن تأدية واجبهم و الموت بشرف في خنادق الهادية برغم محاولات حكومتهم ثنيهم عن ذلك و أحسست أن هذه الكلمات بالذات يجب على الكثيرين ان يقرأوها و أن يتذكروا دائما أن مشكلتنا ليست مع الشعوب و إنما مع الحكومات التي تزيف الحقائق و تتلاعب على حاجات شعوبها في سبيل ثنيهم عن تعاطفهم الفطري مع قضية فلسطين، قضية العرب الاولى.

و يبقى السؤال البسيط :لماذا نقرأ "زمن الخيول البيضاء"؟؟؟ و الجواب أننا يجب أن نقراها حتى نستطيع أن نواجه أنفسنا أولا و العرب ثانيا و العالم ثالثا و نجاوب أسئلة فطرية بسيطة من مثل : لماذا ضاعت فلسطين؟؟؟ و من المسؤول عن هذا الضياع؟؟؟ قرأ العالم تاريخنا منقوصا...قرأ العرب تاريخنا منقوصا و قرأ أبناؤنا الذين هم أحوج الناس إلى معرفة الحقيقة التاريخ منقوصا و "زمن الخيول البيضاء" فرصة عظيمة حتى نعلم أبناءنا و بناتنا لماذا ضاعت فلسطين. أثناء نقاشنا للكتاب خلال اللقاء الاول لمبادرة "أسفار" قلت أن مجتمعنا سيختلف لو استطعنا ان نجعل 100 شخص يقرأون هذا الكتاب العظيم و اتمنى أن نوفق في هذا المسعى و نعمل على توعية الناس بأهمية هذه النوعية الرائعة من الكتب التي تناقش تاريخ فلسطين و تجربتنا كشعب بكل ما فينا من سيئات و حسنات.

قرأت هذه الرواية و شعبنا يمر في مرحلة دقيقة من تاريخ نضاله و وجدت أن التاريخ يعيد نفسه، وجدت أننا لم نتعلم الدرس منذ 66 عاما و وجدت أن فلسطين تمر بما مرت به قبل 66 عاما و السؤال الذي لا أستطيع منع نفسي من سؤاله هو :هل سنترك فلسطين للضياع مرة أخرى؟؟؟ لا أملك إجابة دقيقة تماما و لكني متيقن من أن قراءة "زمن الخيول البيضاء" ستساعدنا على عدم التفريط بفلسطين مرة أخرى.






4 comments:

  1. الكتاب اللذي اصابني بالاكتئاب

    ReplyDelete
  2. للتو انتهيت من قرائته، كتاب اخذني الى عالم اخر جداً اخذني الى تلك القضية التي تكاد ان تكون منسية في الوقت الحالي تخيلت مشاهد القتلى والقرية بعد تدميرها تمزق قلبي فقط من القراءه كيف هي الحقيقة اذن.. كرهت الكيان الصهيوني فوق كرهي لهم اكثر فعلا اتمنى من كل عربي ان يقرأ الكتاب لكي لايغفل قلبه عن قضية المسلمين الاولى ولا من ينسى مقدساته من الدعاء

    ReplyDelete