Friday, September 9, 2011

مشافي فلسطين.....أخطاء بالكيلو


في الحقيقة انا لست كاتبا غزير الانتاج، لانني في بعض الاحيان يصيبني نوع من الكسل و التقاعس عند توارد بعض الافكار على ذهني فتضيع الفرصة و لا اتمكن من تدوين تلك الافكار، و لكنني ايضا من تلك النوعية التي تجد نفسها مجبرة في بعض الاحيان على الكتابة، خصوصا عندما اشاهد "العوج"، لا شي يحفزني اكثر من العوج و ما اكثر العوج في بلادنا، لا تكاد تفكر في جزئية من جزيئات حياتنا دون ان تجد العوج ينظر اليك تلك النظرة الاستفزازية، نظرة المنتصر، يعرف انه متأصل في انفسنا و يعرف انك في الاغلب سوف تشيع بعينك عنه متجاهلا التحدي، و تمضي في حياتك و العوج يلازمها و تتجاهله، و لكني في بعض المرات لا اشيح بوجهي و اقبل التحدي مستعينا بالكتابة سلاحا يعينني على هذه المعركة، هكذا اخوض المعركة لانني لا استطيع ان اتحمل اكثر من هذا، اعرف قواعد اللعبة و اعرف ان الفوز صعب لكني على الاقل لم اولِ الادبار يوم الواقعة.

طبيعة الانسان تفرض عليه القصور و الخطأ، فالكمال لله وحده و الخطأ وارد في كل المجتمعات، و الطبيب انسان و بالنالي فهو يخطىء كما يخطىء المهندس و المعلم و العامل، كلنا خطاؤون و لكن خطأ الطبيب من الاخطاء التي تكون تكلفتها باهظة، لان خطأ الطبيب قد يضر مريضه او يقتله و لذلك كانت مهنة الطب من المهن التي تحتاج ضميرا حيا و مواصفات خاصة حتى تتوفر للانسانية نوعية خاصة من البشر القادرين على التركيز في احلك المواقف و علاج الامراض و الاصابات مع تقليل هامش الخطأ الى ادنى مستوياته لان حياة الانسان لا تقدر بثمن و مع ذلك فالاخطاء الطبية تحدث دائما في كل انحاء العالم، و لذلك توجد لجان خاصة تحقق في تلك الوقائع و تحدد توصيات لضمان عدم تكرار هكذا اخطاء في المستقبل قد تشمل عقوبات تأديبية لبعض الاطباء اذا كان الخطأ متعمدا و توجد تشريعات خاصة تقوم على تعويض اهل الفقيد بما يتناسب مع عظم المصيبة التي نتجت عن ذلك الخطأ الطبي.

اعيش حياتي في فلسطين و اذهب الى عملي و اتبادل اطراف الحديث مع زملائي و اعود الى بيتي و لا يكاد يمر يوم دون ان يخبرني احد الزملاء او الاهل عن قصة الزوجة التي توفيت اثناء الولادة او قصة الاخت الي توفيت نتيجة علاج خاطىء او قصة الاب الي فقد البصر باحدى عينيه اثناء اجراء عملية له الى اخره من تلك القصص التي تدمي القلب و تحزن النفس، بل اكاد اجزم ان جميع من عاش في فلسطين يعرف اشخاصا عانوا من هذه الاخطاء الطبية التي تستمر بالحدوث يوما بعد يوم دون حسيب ولا رقيب، اصبح الذهاب الى المشفى مثل زيارة المقبرة بالنسبة لي، حتى ابر المخدر اصبحت تشكل لي الهواجس، فما زالت قصة وفاة فتيات في مقتبل العمر بعد الولادة نتيجة ابر مخدر فاسدة تقص مضجعي، أسائل نفسي عندما اسمع هذه القصص، ما لو كانت والدتي هي من توفي نتيجة هذا الخطأ؟ ماذا لو كانت زوجتي المستقبلية التي سوف احبها و سوف تضع لي ابنا او بنتا صغيرة هي من توفيت على سرير المشفى نتيجة هذا الخطأ؟ ماذا لو كنت انا و خرجت مشلولا او فاقدا للذاكرة؟

و يبقى السؤال الذي يطرح نفسه عالقا في الاذهان، اين هو القانون؟؟ اين هو القانون مما يحدث من اهمال و اخطاء فادحة تودي بارواح اشخاص منهم ما زال في مقتبل العمر، فالقانون وجد لانصاف هكذا حالات، القانون وجد لاحقاق الحق و محاسبة الخاطىء بما يستحق، او هكذا ما ظننته، فمن خلال سؤالي عن وجهة النظر القانونية حول هذه القضايا، اتضح لي انها قضايا خاسرة لاهمية وجود شهود من الاطباء المشاركين في تشخيص الحالة مما يمكن للمحكمة من تحديد المسوؤلية الواقعة على كل طبيب من المشاركين في تشخيص الحالة و الحكم عليه حسب ذلك ولكن الاطباء و للاسف الشديد يقومون بحماية بعضهم بعضاً او يقومون بتشتيت العدالة عن طريق ادخال عدد كبير من الاطباء و الممرضين في القضية مما يؤدي الى ضايع دم الضحية بين القبائل و خروج الجميع سالمين دون ادانة أحد.

ان المسؤولية الاساسية في موضوع الاخطاء الطبية في فلسطين تقع بالدرجة الاولى على وزارة الصحة الفلسطينية و ذلك لاسباب متعددة اهمها غياب التحقيقات الجدية في اسباب الاخطاء الطبية و عدم اتخاذ اجراءات صارمة بحق من قاموا بهذه الاخطاء سواء أكانوا اطباء او مستشفيات، كما أن ضعف التدريب في المستشفيات و قلة رواتب الاطباء خصوصا للاطباء المبتدئين تلعب دورا في ضعف تكوين و خبرة الطبيب المبتدىء و لا تنمي عنده روح المبادرة و الاجتهاد و الانتماء لعمله، و انما تنمي له عدم الاكتراث و الالتفات للعمل الخاص الذي يدر عليه المال الوفير فيجعله يهمل مهنته الاساسية كطبيب في احدى المستشفيات و ذلك ينعكس سلبا على المرضى الذين يقوم بعلاجهم في المشفى.

كما ان الاطباء يقع عليهم جزء كبير من المسؤولية لانه يفترض فيهم وجود الضمير الحي الذي يحفزهم على عمل الخير و محاولة انقاذ حياة البشر حيث أنهم اكثر من يعرف قيمة حياة الانسان التي لا تقدر بثمن، مقدرين لهم تعبهم و اجتهادهم و علاجهم و انقاذهم لارواح الكثير من الناس، لكننا نرجو منهم تحكيم الضمير و وضع مخافة رب العباد نصب اعينهم و عدم السكوت عن اخطاء زملائهم حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات الشخصية لانه يجب بذل كل ما يمكن تقديمه في سبيل تفادي هذه الاخطاء.

و اتمنى على وزارة الصحة و نقابة الاطباء التصرف المهني بما يتناسب مع امال شعبنا في اقامة الدولة الفلسطينية الحديثة القائمة على العلم و ليس المصالح و الفئوية خصوصا فيما يتعلق بالاجراءات المتخذة بحق الاطباء الذين قصروا و اخطأوا اثناء قيامهم بواجبهم الذي هو رسالتهم في هذه الحياة.

ان الهدف الاسمى الذي اتمناه لمستقبل مهنة الطب في فلسطين ليس مجرد انزال العقاب بمن اخطأ و تعويض المتضررين، و انما محاولة الحد من هذه الظاهرة التي اصبحت اخبارها شبه دارجة في حياتنا اليومية، اسألوا من فقد عزيزاً....هل يعيد الذهب ما كان قبل حصول الضرر؟يقول الشاعر المصري الراحل أمل دنقل في قصيدته الشهيرة " لا تصالح" :
                                                                                                                                                                                                                                           
                                                لا تصالحْ!
                                                        ..ولو منحوك الذهب
                                                               أترى حين أفقأ عينيك
                                                                      ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
                                                   هل ترى..؟
                                                                 هي أشياء لا تشترى..: