Monday, March 9, 2015

أسطر قليلة حول : فيدودور دستويفسكي

تذكرت دستويفسكي اليوم عند الظهيرة. كنت اتمشى وحيدا تحت الشمس و أفكر في الحلقة الاخيرة من مسلسل أمريكي شهير كنت قد شاهدته البارحة. أكثر ما أثر فيي خلال مشاهدتي هو قيام أحد الشخصيات بقتل فتاة مسكينة للتستر على أفعال مشينة تخص رئيس الولايات المتحدة الامريكية. كانت هذه الفتاة تعرف تماما أنها ذاهبة في رحلة بلا عودة و مع ذلك فقد حاولت اقناع قاتلها بأنها مسكينة و ليس لها ذنب ولا حيلة و مع أن القاتل قد تأثر بما قالته إلا أنه قد قام بتنفيذ مهمته.

لماذا تذكرت دستويفسكي؟؟ لأنه لو اتيحت له فرصة كتابة المشهد السابق لاستطاع أن يُظهر النبل في شخصية القاتل الذي كان سيعفو عن الفتاة دون أن يقوم بقتلها. كيف لا و هو من استطاع في روايتيه العظيمتين "الجريمة و العقاب و الاخوة كارامازوف" أن يظهر النبل حتى في شخصيات الشر ليؤكد في النهاية أن الانسان لا يخلو من النبل و الانسانية مهما أظهر عكس ذلك و أن كل خصالنا الشريرة إنما هي خصال مكتسبة من بيئتنا و تربيتنا و ظروفنا التي قد تغيب الانسان في داخلنا و لكن ذلك لا يعني أنه قد مات. اليوم فقط احسست أن ما يجمعني بهذا الكاتب العظيم هو الايمان الاعمى بالانسانية

Wednesday, January 21, 2015

أسطر قليلة عن : مدن فلسطين

خلال قراءتي لرواية الضوء الازرق‬ للكاتب الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي‬ التي تحوي الكثير من الرموز و الدلالات استوقفتني هذه الفقرة التي لطالما عبرت عن شعوري تجاه مدن فلسطين‬...فمدن فلسطين ليست مدنا بالمعنى الحقيقي لكلمة مدينة و اذا استثنينا رام الله‬ فلا تجوز مقارنة مدن فلسطين بمدن من عالمنا العربي مثل عمّان أو القاهرة أو دبي فكيف بالمقارنة مع مدن العالم الواسع....مدن فلسطين هي تجمعات سكانية منغلقة على نفسها الى حد كبير نمت مع مرور السنين و تعاقب الاجيال مما استوجب توفير الخدمات الموجودة في المدن من قبل المشافي و الجامعات و لكنها تفتقد الى "الاختلاط" الذي يعتبر سمة من سمات المدن الاساسية و الموجودة في كل مدن العالم فالمدينة بيئة منفتحة جاذبة للسكان من القرى للاستقرار و الانصهار فيها حيث لا اعتبارات كبيرة لاسماء العائلات و للعلاقات الشخصية كما نرى في القرى و معظم مدن فلسطين حيث يعرف أغلب السكان الأصليين بعضهم بعضا....في المدينة تكون الغربة و هذا ما لا نراه الا في رام الله التي أضحت الاقرب الى استحقاق صفة "المدينة الاولى" في فلسطين في رأيي الشخصي
هذا الوضع الغريب في "مدن" فلسطين سببه الاساسي هو الاحتلال الذي صعّب عملية الاندماج بين المدن و القرى الفلسطينية و سعى بسياسة ممنهجة إلى سجن الفلسطينيين في كانتونات قراهم و بلداتهم فكأنما يعيش الناس جميعا في مجموعة من السجون الصغيرة بلا قضبان و هنا تتضح المأساة...

Tuesday, January 6, 2015

أسطر قليلة عن :ذكريات الطفولة

لا يستطيع الانسان التملص من فخ الذاكرة، من أنيابها التي تمتد عميقا في عقله و وجدانه خصوصا عندما نتكلم عن ذكرياتنا الاولى في هذه الحياة...تلك الذكريات التي يشوبها الغموض الذي يجعلنا نتسائل كثيرا إن انت حقيقية أم أنها من صنع الخيال. تبقى هذه الذكريات حاضرة في وجداننا رغم عدم اكتمالها، ربما رغبة منا في محاولة فك رموزها و معرفة أحداثها، أو قد يكون السبب هو حنيننا إلى ماضٍ نعرف تماما استحالة عودته بكافة تفاصيله و بكافة المشاعر الاصيلة التي أحسسنا بها في طفولتنا. الطفولة هي أهم ما يصنع حياتنا...أهم ما يحدد مصيرنا فيها لأن ما يتبقى منها هو مجموعة من المشاعر التي يُصعب تفسيرها نتيجة لصغر السن و عدم وضوح الذكريات و مع ذلك..تبقى هذه المشاعر معنا طوال العمر.

كثيرا ما تراودني هذه الذكرى التي لم أحدث بها أحدا من قبل، عن ذهابي مع الاهل إلى "البر" عندما كنا نعيش في الامارات، و البر لمن لا يعرفه هو كالبرية عندنا في فلسطين و لكن الفرق بكل بساطة أن البر ليس بجمال برية فلسطين...القليل جدا من الاشجار و الكثير من المساحات المستوية المليئة بالصخور و بعض الحشائش و التي لا يمكن زيارتها في أجواء الخليج الحارة، و إنما يزورها الناس في الشتاء عند اعتدال الجو للشواء و الحصول على بعض "الخبيزة" التي تنمو بعد سقوط الامطار. أتذكر هذه الزيارة بشكل شبه يومي رغم أنني لا أذكر أي موقف معين أو أي حوار مميز...أذكر فقط منظر الحشائش بين الرمال و أجده جميلا...ربما لأنها جميلة و ريانة في وسط هذا الجفاف و القحط...أتذكر والدتي و هي تبحث عن الخبيزة التي لا أحبها على الاطلاق و لكني الآن و بأمانة أجد نفسي في حنين دائم إلى ذكرى مبهمة و لا يوجد فيها ما يميزها..أجد نفسي راغبا في زيارة هذه المكان و التجول فيه في يوم مشمس متعدل الحرارة. أجده و للمفارقة جميلا رغم حبي للخضرة و كرهي للصحراء و لكنني كلما أردت أن أتخيل منظرا رائعا أو تجربة جميلة تجد هذه الذكرى طريقها الى مخيلتي.  قد تكون هذه الذكرى و غيرها من ذكرياتي الاولى في هذه الحياة مؤلمة نتيجة لاقتلاعي من المكان الذي تربيت فيه و ذهابي إلى مكان آخر للعيش دون فرصة للعودة مرة اخرى إلى الاماكن التي أبصرت فيها أول ما عرفت من الحياة...أتذكر كثيرا البيت الذي تربيت فيه في صغري عندما عشت في الامارات "انتقلنا فيما بعد الى بيت اخر و لكني أحن بالذات إلى بيتنا الاول الذي شهد طفولتي و بداية وعيي"..أتذكر الكثير و الكثير حول طفولتي و لا أجد سبيلا إلى تهدئة جروح الذاكرة و هجماتها على روحي المثقلة اصلا بهموم الحياة. قد تكون الجملة القادمة أهم ما في هذه التدوينة الشخصية : "لا تقتلعوا أولادكم من الجذور قبل الاوان ولا تربوا أولادكم في بيئة مؤقتة"...احرصوا على أن يعيشوا طفولتهم بسلام حتى يبلغوا من العمر ما يقويهم على السفر و تجربة الحياة و احرصوا أكثر على تربيتهم في وطنٍ يكون لهم نقطة انطلاق الى هذه الحياة و الاهم أنه سيكون لهم نقطة النهاية التي تحوي ذكريات الطفولة و الصبا ولا تربوهم في الغربة التي ليست بوطن و إنما هي مجرد محطة مؤقتة و بالرحيل عنها سيفقد أولادكم جزءا كبيرا من ذكرياتهم الاولى عن هذه الحياة.

Wednesday, December 3, 2014

أسطر قليلة حول :وفاة رضوى عاشور




أحزنني خبر وفاة الكاتبة الكبيرة ‫‏رضوى عاشور‬، ليس ذلك الحزن الذي ينتابني كلما سمعت أن أحدهم قد تُوفي، فكما تعرفون...للموت رهبته و غموضه...تلك المحطة التي نتجه إليها جميعا مهما طال الزمن...و التي نخافها ليس فقط لخوفنا على حياتنا و إنما أيضا لخوفنا على حياة من نحب. كان حزني أعمق و ليس السبب في ذلك ما تركته الفقيدة من تراث أدبي-على أهميته- و إنما كان حزني عليها كإنسانة...كزوجة مريد البرغوثي‬ و أم ‫‏تميم البرغوثي‬.....لا زلت أتذكر قصة هذه العائلة التي تحدت كل العالم من أجل أن يجتمع شملها و لا زلت أتذكر مريد في روايته العظيمة في بساطتها "رأيت رام الله‬" و هو يصف رضوى الصابرة..القوية و التي يمكن الاعتماد عليها...رضوى التي فُرقت عن زوجها بالقوة سنين طوالا فاستطاعت الصمود في سبيل هذه العائلة الصغيرة في تعدادها و لكن الكبيرة في طموحها، ليجتمع شملهم في النهاية و ليثمر حبهم الكبير عن تميم....الشاعر الرائع و الأديب....كلما نظرت إلى صورتهم أحسست في نفسي أنني أرى أكثر عائلة متناغمة و رائعة في العالم....أحسست أنه ما يجمعهم ليس المشاعر التقليدية التي تمسك بوهن معظم العلاقات الزوجية التي مر عليها الزمن حولنا....أحسست أن ما يجمع رضوى و مريد أعمق و أقوى الاف المرات...ملايين المرات...لانهم كافحوا في سبيل أن يكونوا معا و لانهم اختاروا هذا المصير المشترك عن قناعة تعكس مقدار فهمها بانهما خُلقا حتى يُكمل بعضهما الاخر....أشعر بالحزن و أنا أتخيل مريد...كيف سيعيش بعد هذا الفقد؟؟؟كيف سيعود التوازن إلى حياته التي غابت رضوى عنها؟؟؟أتمنى لو أن كان بإمكان كلماتي أن تصله....كنت سأقول له أنك لم تفقد رضوى وحدك و لكن كل من عرفكم قد فقدها معك.
إني لا أتمنى لنفسي إلا أن أجد "رضواي" التي سأكون لها "مريدا" .

Thursday, September 11, 2014

انحدار إنسانية البشر :التواصل نموذجا


الاتصالات غيرت كل شيء، غيرت مفاهيم كثيرة و أفكارا كثيرة حول حياتنا و عالمنا، أتاحت لنا التواصل الرخيص نسبيا مع أشخاص من شتى أنحاء الكرة الارضية و لعبت دورا كبيرا في ايصال حقيقة الاوضاع في مناطق شهدت نزاعات لم نكن لنسمع عنها لولاها. تغيرت حياتنا لدرجة أن كثيرا من كبار السن الذين يصعب اقناعهم بالتقنيات الجديدة وجدوا أنفسهم مضطرين للتماشي مع ألفاظ من مثل "فيس بوك" و "يو تيوب" و "تويتر" حتى يستطيعوا أن يعرفوا جوانب أخرى عن حياة عائلاتهم. لا أحد ينكر أهمية الاتصالات في حياتنا و لكني وجدت نفسي أفكر في الموضوع من زاوية أخرى خلال الفترة الماضية.

لم يعد الناس يلتقون كالسابق، لم يعد الناس يتكلمون كالسابق و لم يعد الناس يكتبون كالسابق و باختصار شديد فإن إنسانية البشر في انحدار و ترابطهم الفطري كمجتمع مهدد بالفناء و كذلك مستوى ثقافتهم و تقديرهم للثقافة بكافة أشكالها في حالة يرثى لها. كيف لا و الكثيرون يستغنون عن لقاء أو حتى سماع أصوات أحبائهم و أصدقائهم مُكتفين بعبارات مقتصبة يتم إرسالها عبر برامج المحادثة من مثل "فيس بوك ماسنجر" أو "واتس آب"، مما يعكس تغيرا في فطرة البشر الاجتماعية و التي كانت دائما مبنية على التواصل الحقيقي باستخدام الكلمات و لغة الجسد من حركات و سكنات و نظرات إلى آخره. ثم جاءت فكرة الرسائل التي مكنت الناس من التواصل عن بعد و التي كانت حجر الأساس لفكرة الاتصالات الحديثة فهي افترضت و لأول مرة عدم ضرورة تواجد شخصين يرغبان في التواصل في مكان واحد و إنما امكانية تحقيق هذا التواصل عن طريق التراسل و عن طريق الكتابة. و مع ذلك فقد كانت الكتابة تحديا لقدرات الانسان في التعبير عن حالته و أحاسيسه و أفكاره في شكل كلمات ينبغي أن تنقل كل هذا إلى قارئها مما أدى إلى تحسن مهارات الانسان الكتابية و اطلاق العنان لخياله فظهرت الآداب بشتى أنواعها، ظهرت رغبة في نقل هذه التجارب إلى القراء كرسائل مفتوحة لمن يرغب بقراءتها و بالرغم من أن الكتابة قللت ولو بشكل ضئيل من حتمية التواصل الحقيقي المباشر إلى أنها من جانب آخر قد ساعدت على تطور ثقافة البشر و بالتالي زادت من إنسانيتهم بشكل أو بأخر، يكفي أن تقرأ رسائل قديمة من أب لإبنه أو بين حبيبين لترى مدى اجتهادهم في التعبير عن أحوالهم و عواطفهم بلغة و تعابير جميلة أو لترى أوراق الورد المجففة و الصفحات المعطرة و أي أسلوب آخر يمكنه نقل مشاعرهم إلى قارئها. ترى في الرسائل عرضا للافكار في صورة كاملة غير مجزوءة أو مبتورة كما تواصلنا اليوم الذي يشكو بشكل أساسي من تشردم أفكاره كما سيظهر في سياق حديثنا.

جاء إختراع التلغراف "البرق" و من ثم الهاتف ليضع بدائل سريعة لعملية الاتصالات بين البشر و في هذه اللحظة بالذات بدأت العلاقة العكسية بين سرعة الاتصال و "نسبة التواصل البشري الحقيقي" فيه إن جاز التعبير، فقد كان اغراء الوسائل السريعة للاتصال عاليا لدرجة أن هجر الكثيرون أوراقهم و يراعهم و توفقوا عن الابداع الكامن في رسم عواطفهم و أفكارهم بالكلمات و الذي يحتاج للتأني إلى اغواء الحديث السريع دون الحاجة إلى كثير من التفكير مما رسم لنوع جديد من التواصل بين الناس و الذي يقوم على نقل الحقائق و الاحداث المجردة دون ذكر انطباعتها الداخلية في أنفسنا. ذلك ساعد على ازدهار مهنة الصحافة و تغطية الاخبار و لكنه أيضا عمل على اهمال الجانب الانساني في القصص مما ساعد على تحويل فكر الكثيرين شيئا شيئا إلى تقبل الاحداث دونما حاجة للتساءل عن أسبابها أو حتى إبداء المشاعر على تنوعها عند الاطلاع على أخبار العالم التي أضحت تنتقل سريعا و بوسائل متعددة مع مرور الوقت. و مع ذلك فإن التواصل الصوتي حافظ ولو على نزر يسير من إنسانية التواصل البشري، فصوت الانسان يكشف الكثير عن مشاعره و أحاسيسه و إن غابت لغة الاجساد و لكن الوضع الحالي و انتشار تطبيقات التراسل الفورية الكتابية جعلت اعتماد الاتصالات الصوتية في التواصل في انخفاض في مقابل ارتفاع ملحوظ لاستخدام برامج الدردشة التي تشجع على استخدام الاختصارات على إختلاف أشكالها و الصور و "ما قل و دل" في سبيل احداث التواصل، أصبح تواصل الكثيرين محكوما بظروف غريبة من مثل "توفر الانترنت اللاسلكي" أو "الاشتراك بخدمات الجيل الثالث" و ما يتبعها من ضوابط شرائح الخدمة التي تفرض الاقتصاد على المستخدم في استخدامه للخدمات و لا تتيح أمامه الفرصة لتجميع أفكاره و التأني فيها ليتم طرحها في شكل متكامل و معبر عن حقيقة مشاعر و ظروف الشخص الذي يقوم بكتابتها. كل هذا يؤثر على فكرة و مبدأ و معنى التواصل عند البشر الذي تشوه و أضحى أقل إنسانية مع غياب ضرورات اللقاء و التأمل و ترتيب الافكار و طرحها بشكل مبدع. أضحى الانسان أكثر ألية في التواصل، تحكم عقله الكثير من الاختصارات و الرموز التي تلغي عنده فكرة ايجاد أسلوبه الخاص في التواصل مع الاخرين، أضحى أقل تقديرا لفكرة التواصل مع الاخرين في الاساس في خضم الحياة التي يعيشها الكثيرون كالآلات غارقين في روتين أعمالهم و شهواتهم القاتل الذي يفرض عليهم تقديس المادة التي يرون فيها القوة في مقابل تحقير الافكار الانسانية باعتبارها تعمل على اضعاف الانسان و باختصار شديد أضحى الانسان أقل إنسانية و يبدو أن هذا النهج مستمر مع تقدم أساليب التواصل و تطور الحضارة في مقابل خفوت الانسانية على كافة الاصعدة و المستويات.

أسأل نفسي عن المستقبل، كيف سنتواصل فيه؟؟ هل سنصل إلى درجة تنعدم عندها كل دواعي اللقاء ليعيش كل منا في بوتقته الخاصة محاطا بأجهزة المستقبل التي سيطل منها الانسان على العالم؟؟؟ في الماضي كان دائرة الانسان الاجتماعية أضيق و لكنها كانت عامرة بالحب و الان نجد أن قوائم "أصدقائنا" مليئة و لكنها كالغثاء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، هل سيكون مستقبل الانسان بهذه الكآبة و هل سيكون الانسان "إنسانا" أم سيصبح هجينا مع الآلات التي يبدو أنها ستحكم أساليب حياتنا المستقبلية و إلى الابد.

في النصف الثاني من القرن العشرين إرتفعت هواجس "الذكاء الاصطناعي" و أن الانسان الالي "الروبوت" و الحاسوب سيصلون إلى درجة من الذكاء تفوق الانسان مما سيساعدهم على حكمه و السيطرة على القوة في كوكبنا، و مع مرور الزمن مرت هذه الافكار بمراحل من الخفوت و الانتعاش و لكني أُحس أنه لا توجد أي دواعي للحاسوب لأن يكون أذكى من البشر حتى يستطيع السيطرة على حياتهم فالانسان يقوم بهذه المهمة بنفسه عن طريق اعتماده أكثر و أكثر على الحضارة في معيشته و تغيير أسلوب حياته و مفاهيمها تبعا لتطور الحضارة، قد يبدو مصطلح "ذكاء الالات الاصطناعي" من المصطلحات الغير أكيدة و التي يدور حولها الكثير من الجدل لكن مصطلح "سذاجة الانسان" يكاد يكون حقيقة لا يختلف حولها الكثير من البشر ممن تبقى في وعيهم شيء من إنسانية تتمثل في تقديرهم للدين و القانون و الفن و الثقافة.



Monday, August 4, 2014

"تجليات التاريخ في" زمن الخيول البيضاء



لم أكن أتوقع أنني سأقرأ لابراهيم نصرالله في يوم من الايام. لا توجد أسباب مقنعة لشعوري ان هذا الكاتب لن يعجبني، ربما إحساسي أنه يشبه الشعراء أكثر من الكُتاب عندما رأيت صورته..لا أدري لكني استثنيته من كافة قراءاتي الحالية أو المستقبلية إلى أن جاء اللقاء الاولي لمبادرة القراءة "التي أسميناها أسفار فيما بعد و للمعلومية أسفار جمع و مفردها سِفر و هو الكتاب كما أن الكتاب يسافر بنا بعيدا إلى عوالم أخرى لم نكن لنعرفها لولاه" و تم طرح رواية "زمن الخيول البيضاء" للتصويت و هنا فقط أحسست برغبة في قراءته، فهذا هو تأثير اجتماعات القراءة...أن تجعلك تقرأ ما لم تكن مقتنعا بقراءته على الاطلاق.

عند شرائي للكتاب أعجبت جدا بجودة طباعته، الورق و الغلاف و الخطوط كلها كانت مثيرة للاعجاب في الحقيقة و منذ صفحاته الاولى أحسست أنني كنت مخطئا جدا في حق هذا الروائي فالكتاب مكتوب بلغة سلسة و بطريقة تشجع على قراءته فعلا. قرية "الهادية"، قرية فلسطينية مُتخيلة يمكن أن تكون نموذجاً لأي قرية فلسطينية، نعيش مع أهلها تجاربهم في حقبة زمنية حساسة في تاريخ فلسطين تمتد من أواخر أيام الدولة العثمانية مرورا بنهايتها بُعيد انتهاء الحرب العالمية الاولى و ابتداء الانتداب البريطاني وصولا إلى النكبة. قرية عرفت التسامح الذي عززه الكاتب بايجاد شخصيات مسيحية وطنية من أهالي القرية و فلسطين و لكنها أيضا عانت من التبشير و محاولة الاقتلاع من الارض على أيدي رجال الدير القادمين من الخارج و الحاقدين على العرب قبل حقدهم على المسلمين. كما أنها قرية عانت أشكال متنوعة من الظلم على مدار الزمن، عانت من ظلم الاتراك الذين كان همهم تحصيل الضرائب و أخذ الشباب الى معارك الحرب العالمية الاولى تاركين الناس فريسة للجوع و الجهل و المرض، كان الاتراك يُسلطون أسوء الناس و أحقدهم من بني جلدتنا علينا فكانت شخصية الهباب نموذجا لهذا الظلم. و لم تكد ترتاح من آثار هذا الظلم حتى أتى الانجليز بظلمٍ جديدٍ عليهم، ظلم دولة "القانون" الذي يحترمه البريطانيون و لكن مشكلته الوحيدة أنه تم تفصيله لقهر الفلسطينيين و سلبهم أراضيهم و حياتهم لصالح اليهود. ظلمٌ تجسَد في شخصية الضابط الانجليزي "أدوارد بترسون" التي تجلت عبقرية الكاتب في خلقها و ايجاد بعدٍ آخر لها يتمثل في كتاباته الشعرية التي نراها في هوامش الكتاب و التي لطالما راودته خلال فترة عمله في فلسطين، هوامش كُتبت بذكاء لتعطينا بقية القصة و حقيقة مشاعر بترسون أثناء تأديته لعمله رغم الوحشية التي بدى بها في قمعه للثورة الفلسطينية. تكشف لنا الرواية بجلاء أساليب الاستعمار الانجليزي التي تمكنه من إحكام سيطرته على البلدان التي خضعت له، أساليب من مثل استخدام سياسة فرق تسد بين أي عائلتين، أي قريتين و أي مدينتين، قد بدا ذلك واضحا في عداوة صبري النجار للحاج خالد التي أدت به إلى محاولة اغتياله و من ثم الوشاية به ليقع في فخٍ محكم و ليموت ميتة الابطال التي دفعت الضباط الانجليز إلى دفن الحاج القائد دفنا عسكريا بما يليق بمقاتل شريف سقط من أجل بلده. أو من مثل خلق نخب ثقافية و سياسية خاصعة له و يتم منحها سلطة الحديث بإسم الشعب المغلوب على أمره، كيف يمكن لهذه النخب التي نهلت العلم و الاخلاق من المستعمر الذي ما علمها إلا لكي تقول له نعم أن تسترجع الحقوق؟؟؟ نُخب من مثل سليمان بك الهاشمي الذين اعمتهم لغة المال و المصالح عن القيام بواجبهم الوطني و الذي لجأ في لحظة معينة إلى البريطانيين متلمسا منهم أن يقوموا بسجنه حتى يقوم بتلميع صورته في نظر الناس أو محمود إبن خالد الشيخ محمود بطل القصة الذي ترك تاريخ عائلته المجيد و ما زاده علمه الذي تعلمه في مدرسة تبشيرية إلا بعدا عن الواقع و كرها لتخلف القرية و أهلها بما فيهم زوجته و أولاده حتى اختار في لحظة مصيرية أن يترك كل هذا خلفه و يمضي بعيدا عن سفينة وطنه الغارقة. كما أن تحكم الانجليز في شؤون العرب أدى إلى تخاذل العرب الذي تجلى في إفشال ثورة 1936 و تسليم فلسطين دون أوامر للقتال في عام النكبة. لتأتي الرحلة الاخيرة بعد تذوقهم للويلات و مشاهدتهم لقريتهم التي كانت شاهدا على سنوات صباهم و ذكرياتهم لتصبح أثرا بعد عين.

لم يفاجئني الكتاب تاريخيا لإلمامي بتاريخ الشعب الفلسطيني المعاصر و لكن مشاعر القهر كانت تزداد كلما أوغلت في القراءة على مصير هذا الشعب الطيب، الشهم و الكريم. ذلك الشعب الذي يحترم خيله، يخشى عليها و يحبها، ذلك الشعب الذي كانت له خيول بيضاء هي برأيي عاداته و خصاله الحميدة التي أُبتلينا بمن جاء حتى يشوهها و يحولنا من شعب واحد ذو أرض و تاريخ إلى شرذمة من الناس يكاد الناظر إليها ليظن أنها جاءت متطفلة على تاريخ البشر. قرات الكثير لكني لم أتأثر بمقدار تأثري على شعبنا اللاجىء الذي ذاق ويلات لا أظن أننا نستطيع وصفها مهما كتبنا من الروايات و القصص. لا شيء أصعب من حرمان إنسان من تاريخه و ماضيه و لا أحد يستطيع أن يصف مقدار هذه الصدمة التي حفرت عميقا في وجدان شعبنا بعد كل هذه السنين.

بينما كان الكاتب يخط السطور الاخيرة في عمر الهادية، رأينا بسالة الجنود المصريين الذين أصروا عن تأدية واجبهم و الموت بشرف في خنادق الهادية برغم محاولات حكومتهم ثنيهم عن ذلك و أحسست أن هذه الكلمات بالذات يجب على الكثيرين ان يقرأوها و أن يتذكروا دائما أن مشكلتنا ليست مع الشعوب و إنما مع الحكومات التي تزيف الحقائق و تتلاعب على حاجات شعوبها في سبيل ثنيهم عن تعاطفهم الفطري مع قضية فلسطين، قضية العرب الاولى.

و يبقى السؤال البسيط :لماذا نقرأ "زمن الخيول البيضاء"؟؟؟ و الجواب أننا يجب أن نقراها حتى نستطيع أن نواجه أنفسنا أولا و العرب ثانيا و العالم ثالثا و نجاوب أسئلة فطرية بسيطة من مثل : لماذا ضاعت فلسطين؟؟؟ و من المسؤول عن هذا الضياع؟؟؟ قرأ العالم تاريخنا منقوصا...قرأ العرب تاريخنا منقوصا و قرأ أبناؤنا الذين هم أحوج الناس إلى معرفة الحقيقة التاريخ منقوصا و "زمن الخيول البيضاء" فرصة عظيمة حتى نعلم أبناءنا و بناتنا لماذا ضاعت فلسطين. أثناء نقاشنا للكتاب خلال اللقاء الاول لمبادرة "أسفار" قلت أن مجتمعنا سيختلف لو استطعنا ان نجعل 100 شخص يقرأون هذا الكتاب العظيم و اتمنى أن نوفق في هذا المسعى و نعمل على توعية الناس بأهمية هذه النوعية الرائعة من الكتب التي تناقش تاريخ فلسطين و تجربتنا كشعب بكل ما فينا من سيئات و حسنات.

قرأت هذه الرواية و شعبنا يمر في مرحلة دقيقة من تاريخ نضاله و وجدت أن التاريخ يعيد نفسه، وجدت أننا لم نتعلم الدرس منذ 66 عاما و وجدت أن فلسطين تمر بما مرت به قبل 66 عاما و السؤال الذي لا أستطيع منع نفسي من سؤاله هو :هل سنترك فلسطين للضياع مرة أخرى؟؟؟ لا أملك إجابة دقيقة تماما و لكني متيقن من أن قراءة "زمن الخيول البيضاء" ستساعدنا على عدم التفريط بفلسطين مرة أخرى.






Saturday, June 14, 2014

أسطر قليلة في : العبودية و الحرية

و مع أن العبودية القصرية قد تلاشت تقريبا من عالمنا فإن معظم البشر يعيشون حياتهم تحت نير عبودية اختاروها بأنفسهم. كم هو مؤلم أن تعيش بنفسٍ حرةٍ في عالم اختار اغلب ساكنيه التهرب بشكل خفي من حريتهم ليضعوا كثيرا من قرارات حياتهم و تفاصيلها في أيدي الاخرين. الحرية غالية الثمن و ذات عواقب خطيرة و قليلون هم من لديهم القدرة عن دفع ثمنها و تحمل توابعها